أوائل القرن السابع الهجري وتحديداً سنة 617 هـ اجتاح التتار بلاد الإسلام بقيادة جنكيز خان ، وانطلقوا كالإعصار المدمِّر يغزون القرى والمدن ، ويقتلون النساء والشيوخ ، ويعيثون في الأرض فساداً ، حتى سقطت كبار المدن الإسلامية بالمشرق في أيديهم ، وفعلوا فيها الأعاجيب ، وسفكوا الدماء ، وقتلوا من المسلمين أعداداً لا يحصيهم إلا الله ، ثم تقدموا صوب عاصمة الخلافة وقبلة العلم والحضارة " بغداد " ، فدخلوها بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان ، وأسقطوا الخلافة العباسية ، وقتلوا الخليفة المستعصم بالله وذلك سنة 656 هـ ، وقتلوا بها عدداً كبيراً من المسلمين وصل إلى مليون إنسان ، ودمروا مكتباتها ، وجرى نهر الفرات بلون الدم والمداد من كثرة القتلى والكتب التي ألقيت فيه ، فكانت مصيبة من أعظم المصائب في تاريخ الأمة ، حتى إن كثيراً من المؤرخين لم يستطيعوا أن يصفوا تلك الفترة من تاريخ الإسلام ، من شدة هول وبشاعة ما ارتكبه التتار من الجرائم .
ثم تقدموا إلى بلاد الشام فاستولوا على " حران " و" الرُّها " و" البيرة " وغيرها ، ووصلوا إلى حلب في صفر من سنة 658 هـ فاستولوا عليها بعد حصار شديد ، وفعلوا فيها الأفاعيل ، ثم زحفوا على " دمشق " فاستسلمت في ربيع الأول سنة 658 هـ بعد أن فر حاكمها الناصر يوسف بن أيوب في نفر من أصحابه ، ثم تقدموا حتى وصلوا إلى "نابلس" ، و"الكرك" ، ثم بيت المقدس ، و" غزة" وذلك دون أي مقاومة تذكر ، ثم بدأت أنظارهم تتجه إلى بلاد مصر التي كانت تحت حكم المماليك آنذاك .
وبعدها غادر هولاكو الشام عائداً إلى بلاده بسبب صراع على الحكم جرى بين إخوته ، وولى أمور الجيش قائده كتبغانوين ، وقبل مغادرته كان قد كتب كتاباً إلى حاكم مصر يهدده ويتوعده ويطلب منه تسليم البلاد ، وكان حاكمها هو المنصور بن المعز أيبك الذي كان عمره آنذاك خمسة عشر عاماً ، ولم يكن قادرًا على مواجهة التحديات ، وقيادة الأمة في هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها ، مما حدا بسيف الدين قطز إلى خلعه وتولي زمام الأمور مكانه وكان ذلك في سنة 657 هـ .
وفي تلك الفترة وصل إلى مصر الشيخ كمال الدين عمر بن العديم أحد العلماء الأعلام ، وكان قد أرسله الملك الناصر يوسف بن أيوب صاحب دمشق طالباً من قطز النصرة لمواجهة بغي التتار وطغيانهم .
فجمع قطز العلماء والأمراء وقادة الجند وشاورهم فيما عزم عليه من قتال التتار ، وأخْذِ الأموال من الناس لتجهيز الجيش ، وكان من ضمن الحاضرين الشيخ الإمام العز بن عبد السلام فكان مما قاله : " إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم ، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم ، بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء ، وتبيعوا مالكم من الحوائص - وهي حزام الرجل وحزام الدابة- المذَهَّبة والآلات النفيسة ، ويقتصر كل الجند على مركوبه وسلاحه ، ويتساووا هم والعامة ، وأما أخذ الأموال من العامة ، مع بقايا في أيدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا ".
فعقد قطز العزم على قتال التتار ، وكان أول شيء قام به هو قتل رُسُلِ هولاكو وتعليقهم على أبواب القاهرة .
ثم بدأ بتجهيز الجيش وأخذ العدَّة للقتال ، واستدعى بعض أمراء المماليك من الشام ومنهم الأمير بيبرس البندقداري وانضموا إلى جيشه ، فاجتمع له قرابة أربعين ألفًا من الجيوش الشامية والمصرية .
ثم خرج من مصر في شهر رمضان سنة 658 هـ ، فوصل مدينه "غزة" وكانت بها قوات من التتار بقيادة بيدر ، فداهمها واستعاد "غزة " من أيديهم ، وأقام بها يومًا واحدًا ، ثم غادرها شمالاً ، وفي هذه الأثناء بلغ كتبغانوين قائد هولاكو على الشام أن قطز قد خرج لقتاله ، فاستشار أصحابه في ذلك ، فمنهم من رأى أن يتمهل حتى يصل إليه مدد من "هولاكو"، ومنهم من رأى أن يسرع بلقائه فاختار الرأي الأخير .
وكان قطز عند خروجه قد بعث طلائع من قواته بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس لمناوشة التتار ، واختبار قوتهم ، فناوشهم حتى التقوا جميعاً عند " عين جالوت " بين " بيسان " و" نابلس " .
وفي يوم الجمعة 25 رمضان سنة 658 هـ ابتدأ القتال بين الجيشين ، وكان التتار يحتلون المرتفعات المُطِلَّة على " عين جالوت " ، فانقضوا على جيش قطز وتغلغلوا حتى اخترقوا الميسرة ، وأحدث ذلك شرخاً في الجيش ، فتقدم قطز بقوات القلب التي كان يقودها واقتحم القتال بنفسه حتى استعاد الجيش توازنه .
وكان قطز قد أخفى قواته الرئيسية في الشعاب والتلال القريبة من"عين جالوت" ليباغت بها العدو ، فلما رأوا اشتداد القتال هجموا على جيش التتار ، و قطز أمامهم يصرخ ويصيح : وا إسلاماه .... وا إسلاماه ، يا الله انصر عبدك قطز "، وهو يشجع أصحابه ويحسّن لهم الموت حتى قتل فرسه من تحته ، وكاد أن يتعرض للقتل لولا أن أسعفه أحد فرسانه فنزل له عن فرسه .
وما هي إلا لحظات حتى انقلبت موازين المعركة لصالح المسلمين ، فارتبكت صفوف العدو ، وشاع أن قائدهم كتبغانوين قد قتل ، ففَتَّ ذلك في عضدهم ، وولوا الأدبار يجرون أذيال الخيبة والهزيمة .
ولما رأى قطز انكسار التتار نزل عن فرسه ، ومرَّغ وجهه بالأرض خضوعاً وتواضعاً لله جل وعلا ثم صلى ركعتين شكرًا لله على هذا النصر المبين .
وهكذا كان شهر رمضان المبارك على موعد مع هذا اليوم الخالد في حياة الأمة ، والذي هزم الله فيه التتار لأول مرة في تاريخهم منذ جنكيز خان ، وتلاشت بعده آمالهم في السيطرة على بلاد المسلمين .