من واقعنا
الناس في دنياهم فريقان، للشر إمّا أو للخير عنوان
انتفض صباحا كعادته منتشيا بصلاة البردين ،كيف لا واليوم خير يوم طلعت فيه الشمس ،لقد قرر صاحبنا أن يصل رحمه ويتزود بالوقود اللازم عند والدته من أجل مواصلة السير في هذه الحياة ،كم كان يقول ويحث دائما أبناءه -إن هم أرادوا أن ينسأ لهم في أرزاقهم ويطيل الله في أعمارهم – على صلة رحمهم ،ارتدى أحسن ثيابه ،أحسن وضوءه ،بعد أن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ،ولاحت تباشير الصباح
بعد أن أرسلت عروس النهار ظفائرها الذهبية على الربى والبطاح ،صلى ركعتي الضحى وركعتي الاستخارة ،ثم أطلق العنان لرجليه بعد أن استشار نصفه الثاني أم البنين إن كانت ترغب في زيارة والدها المريض ،أشارت إليه أنها أجلت ذلك ليومين قادمين موعد حلول العشر الأواخر لعلها تكون من العتقاء في هذا الشهر ،وبعدها يفعل الله ما يشاء ،لكنها طلبت منه أن يقرئه السلام في هذا المقام ،نظر إلى الساعة الحائطية ثم سلم وخرج مهرولا نحو موقف سيارات الأجرة والنقل الريفي للأشخاص ،المكان مزدحم بالناس ،شيوخ وعجزة وبعض الرئال وللحديث قياس ومجال .آه إنه هو لمَ لم يتوقف ،قال هذا بينه وبين نفسه ثم التمس له عذرا ،لعله لم يرني ،ثم استطرد قائلا :ولكن الشيخ المجاور له في المقعد الأمامي رفع يده وحياني ،إنه عمي صالح الرجل الطيب المشّاء في الظلَم إلى المساجد ،وبينما هو في هذا الحوار الداخلي إذ بسيارة صفراء فاقع لونها تسر المسافرين تتوقف أمامه ،امتطى المقعد الخلفي بعد أن رفض شاب يافع الجلوس هناك بحجة ...وما هي بحجة إن هي إلا اجترار.
وبعد دقائق معدودات من المسير باتجاه المكان المقصود لمح صاحبنا حاجزا أمنيا للدرك الوطني فاستبشر خيرا وكبر عاليا : تحيا الجزائر .استدار أصحاب المقاعد الأولى نحو صاحبنا وعلامات استفهام كبيرة ترتسم على محياهم ،لم يترك المشهد يمر هكذا ،فقد قال: ألم تعلموا أن شباب البلدية انتفضوا منذ يومين مطالبين السلطات الأمنية بتشديد الخناق على العصابات الإجرامية ،التي استشرى نشاطها في هذا الشهر الكريم ،ثم أن حادثة مقتل الشاب اليافع النافع "إلياس" ما هي عنا ببعيدة ، أي ذنب اقترف" إلياس " ألأنه أحب وطنه فحمل حقيبته مودعا أسرته الفقيرة ليلتحق بالثكنة العسكرية من أجل أداء واجب الخدمة الوطنية ؟ فلم يتخلف ولم يسوف ،ولم يتقاعس وصدق الله والوطن ،علا الحضور صمت رهيب وكأن على رؤوسهم الطير أما صاحبنا فقد سبقته دموعه السيالة لأن "إلياس"كان أحد تلامذته النجباء ،وكان دمث الخلق ،اغتاظ أحد الشباب الجالسين في المقعد الأمامي لطابور السيارات نتيجة قيام رجال الدرك بواجبهم الأمني وراح يقول :واش خلبونا رانا صايمين؟ أما صاحبنا فراح يرسل بصره إلى هناك وما أدراك ما هناك ؟ هناك في مقدمة الطابور يثوي عمي "صالح" مع رفيقه وتخضع سيارتهما للتفتيش ،طلب قائد فرقة الدرك وثائق السيارة فتبين أن صاحبها لا يمتلك ورقة الكشف (السكانير) واعتبر ذلك مخالفة وحرر تقريره الأمني ،واصلنا المسير حتى توقفنا عند باب الحارة لننتظر عربة تقلنا إلى القرية ،لا أحد من المسافرين بالموقف ،اليوم يوم جمعة ولسكان القرية أن يلزموا بيوتهم ويتفرغوا للعبادة في هذا اليوم ،الوقت يمر سريعا وصاحبنا ينقل القدم ذات اليمين وذات الشمال خوفا من أن لا يلحق ويؤدي صلاة الجمعة في مسجد القرية ،آه .الحمد لله عمي "صالح" ومرافقه يتوقفان ويطلبان من صاحبنا أن يركب فهما متجهان إلى القرية لجمع تبرعات المحسنين للمسجد (كما جرت العادة في ولايتنا أن يخصص يوم الجمعة لجمع صدقات المحسنين لفائدة مسجدين اثنين من مساجد الولاية ).سر صاحبنا أيما سرور لأن نصر الله حل ،هلّل وكبّر وراح يقبل جبين الشيخ الوقور ويربت على كتف مرافقه ،وما هي إلا دقائق حتى وصل موطن الصبا ،فاستقبلته الزاوية(زاوية سيدي احسن ) الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي –كرم الله وجهه-بقبابها الشامخة المزهوة بعنفوانها وروعة تصاميمها محيية ضيوفها :ادخلوا بسلام آمنين .فحيا بأحسن منها بصلاته ركعتين ،وهرول نحو الوالدة كي يلعق قدميها ويشحن بطارياته بالوقود اللازم كما اعتاد أن يفعل كل جمعة ،وقبل أن تطأ قدماه باب المنزل سمع صوتا مرتفعا لم يألفه من قبل في البيت (بيت والدته ) ذلك أن السكون والصمت والهدوء والوقار ما يميز منزل الوالد الفقيد ،كيف لا وهو أحد أقطاب وشيوخ وفقهاء الزاوية خصوصا ،والمنطقة عموما ،فقد كان يلقب بالمحكمة المتنقلة ،هكذا قال أحد تلامذته وأتباعه يوم أن أبّنه –رحمة الله عليه-ألقى التحية فردّ عليه بأحسنها ،إنه نجل الأخ الأكبر الذي كان يعطي دروسا للحاضرين في الأخوة وصلة الرحم وهو يغرف بما لا يعرف ،ناسيل أو متناسيا قول الله تبارك وتعالى (يا أيها الذين آمنوا إن حاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) ،تقدم صاحبنا للسلام عليه فرفض وانتفش مع العلم أنه لم يلتق به منذ شهور بحكم طبيعة عمله وكان ينوي أن يصحبه معه إلى بيته للإفطار عنده ،لملمت الوالدة (جدته لأبيه)نفسها واستجمعت قوتها وبحكمتها المعهودة وحلمها وعطفها أرادت أن تطوق الحدث الذي لم يفهمه صاحبنا إلا بعد لأي ،تجرع غيضه عملا بقول المصطفى : (ما من جرعة أعظم أجرا عند الله من جرعة غيض كظمها عبد ابتغاء وجه الله ) نلكن صاحبنا لم يتمالك نفسه المرهفة الإحساس وأجهش بالبكاء وخر ساجدا لله داعيا أن يلحق بالرفيق الأعلى على أن يرى موقفا كهذا من أقرب الناس إليه ،خيم على البيت سكون وصمت رهيب فلو طارت ذبابة لسمع صوت طيرانها إلا من بعض شطحات الأنوف وشهيق الأنفس ودمع العيون ...قال صاحبنا مخاطبا نفسه : (هل هذا هو جزاء سنمار ؟) أم أنه الابتلاء ،حاول أن يستجمع قواه بعد أن ركّز يديه على ركبتيه اللتين سمع لهما صوت وفرقعة بعد أن وهن عظمهما (هكذا حدّث نفسه) ،استغفر ،حوقل ،هلل وكبّر وخرج لأداء صلاة الجمعة في المسجد المحاذي لمنزل الوالدة ،صلى ركعتين تحية للمسجد ثم راح يطلق العنان لأذنيه كي ترتعا درس الإمام ،ويا لمحاسن الصدف فدرس اليوم بعنوان : (صلة الرحم ،دروس وعضات من العشر الأواخر المعتقات ) كانت تلك الكلمات بلسما ضمد جراح صاحبنا وتزيد عينيه اغروراقا ،فما كان من أحد الحضور إلا أن خاطبه :كفّ عن هذا يا أمة الله ،ولما انتهت الصلاة الجامعة عاد صاحبنا أدراجه ليسلم على الوالدة مودعا ، ولم تمهله أبواق سيارة مرافق عمي "صالح"من الاستزادة من التزود بوقود الوالدة ،خرج مسرعا ليلحق بالركب ويالسعادة عمي "صالح" بذلك المبلغ المجموع الذي سيجعله يفاخر بما جمع أمام بقية المتطوعين على اعتبار أن سكان القرية قليلو العدد ولكنهم كثيرو الزاد واستباق الخيرات ،وقفل الجميع راجعين إلى البلدة ،وفي الطريق أخبر المرافق عمي "صالح" بأن لديه (معارف واكتاف) سيعيدون له أوراق سيارته هذا المساء ،مرددا القول
عَد رجالك ...واقلب –رجّع-الماء ) ،وقد أخذته العزة بالإثم ،لم يفهم صاحبنا هذا السلوك من إنسان يتحايل على القانون ويستعمل وساطته رغم ارتكابه لمخالفة ،ويدعي أنه صائم وأنه خرج في سبيل الله من أجل عمارة بيت الله و....و...وأشياء أخرى لم تسع أذن صاحبنا استيعابها ،وراح يعدد مناقبه (حسبه) ، وفي هذه اللحظات كان صاحبنا يردد قول الله تبارك وتعالى ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله...)،أما عمي" صالح" فلم ينبس ببنت شفة ،فأدركت أن الصمت حكمة ،ويجب عندما يحسن ،أخذ كل واحد منا طريقه إلى بيته ولسان حال صاحبنا يقول :ولله في خلقه شؤون .
طرق الباب سلم على من بالبيت ،ونادى صغيرته ووحيدته أن تأتيه بالمصحف ليتلو ورده اليومي ،وما تيسر من الذكر الحكيم ويحفظ بذلك عهد وداد أبيه ،انتظارا لموعد الإفطار وأداء صلاة التراويح بالمسجد الجامع الجديد المحاذي لمسكنه ،ثم جلس أمام شاشة حاسوبه وراح يتفحص ويتمحص أخبار الشماليين ،وفجأة لاحظ عنوانا استهواه ،تطلع إلى محتواه ،فدفعه إلى أن يرسم بريشة يراعه أحداث وكرونولوجيا يومه من واقعه المعيش ويختم ذلك كله بهذه الأبيات الشعرية :
-1-يارب سلم بنينا
من كل سوء أقينا
-2-إني لأرجوك ربي
أنت الإله المعين
-3-منك الإعانة فأعط
إخواني السائلين
-4-هل ينقص المرء شيئا
من نبعك ألمستبينا
-5-يا رب أنت الرحيم
فارحمهمو أجمعين
-6-حاشى لهذا وذاك
إنا رضيناك فينا
-7-هم إخوتي أرتضيهم
فلأبعد الحاسدين
-8-رغم الدي كان بينا
خلوا وقولوا انتهينا
-9-إني لأدعو لهذا
والله يرضى علينا
-10-يرضى به الوالدان
والصفح يمسي مكينا
-11-يسري الإخاء العميم
والدرب يبقى أمينا
-12-درب البنين الصغار
يبقى لمر السنين
-13-نشء تسامى بفكر
هذي علوم ودين
-14-للنصر فزنا ورحنا
رحنا نسوق السفينه
-15-هذي دروس وعبرة
إنا اعتبرنا وعينا
والحمــــــــــد لله رب العــــــــــــالمين
قلم ساعد بولعواد * بليمور يوم :20/08/2011 الساعة الثالثة صباحا و27د