التفكير فوق المعرفيعلى الرغم مما أضافته النظرية البنائية من أبعاد جديدة حول التعلم في الميدان التربوي؛ فإن الباحثين بدؤوا يتحركون إلى الأفكار الجديدة التي تعتمد على علم النفس المعرفي، ونتيجة لهذه التطورات ظهر مفهوم التفكير فوق المعرفي في بداية السبعينيات معتمدًا على أعمال بعض الباحثين مثل (John Flavell) الذي قام بتطوير بعض الأفكار حول كيفية قيام المتعلمين بفهم أنفسهم، والكشف عن عمليات فوق المعرفة الكامنة خلف اكتساب المعرفة،
وقد تطور الاهتمام بهذا المفهوم في عقد الثمانينيات، ولا يزال يلقى الكثير من الاهتمام على المستويين النظري والتطبيقي، حيث أثبت فعاليته في مختلف المجالات الأكاديمية والتربوية.
تتجلى نظرية التفكير فوق المعرفي بوصفها واحدة من أهم النظريات التي يمكن من خلالها التحكم في التفكير كما نتحكم في أفعالنا، ومن هنا كانت أهمية هذا الكتاب الذي يحل عددا من المشكلات في العملية التعليمية التقليدية، تلك المشكلات التي ظلت تؤرق المؤلفة أثناء ممارستها للتدريس.
لقد وجدت المؤلفة إيمان محمد أحمد الرويثي في التفكير فوق المعرفي ممارسات تدريسية مميزة، يمكن أن تتوافق مع جميع أساليب التدريس واستراتيجياته، حيث صممت هذه الممارسات لتساعد المعلمين على التحكم الواعي المقصود لتفكيرهم ومن ثم أفعالهم، فيمكنهم من خلال ذلك أن ينظموا عملية تعلمهم، ويخططوا للمهمات التعليمية التي يقومون بها، فهي تدرّبهم على كيفية صياغة أفكارهم، كما تنمي لديهم الاتجاه نحو السعي والمثابرة للحصول على ما يحتاجونه من معلومات، فهو – على حد تعبير المؤلفة- كالإدارة الداخلية التي يمكن للطالب أن يستخدمها لتتولى تفكيره وتوجهه بشكل لا يتحكم فيه الاندفاع وتداعي الأفكار.
وقد كانت منطلقات المؤلفة في هذا الاتجاه ذات نزعة قرآنية، حيث خرجت من قوله تعالى "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" إلى أن القرآن دعانا إلى التفكر والتأمل وعدم الاكتفاء بمظاهر الأحداث أو الفهم السطحي للأشياء، بل إنه يتجاوزه إلى الفهم العميق لهذه الأشياء وتوظيف الفهم والخبرة للتأمل في الظواهر والسلوك بهدف اكتشاف الحكمة من وجودها والاتساق بينها.
وهناك العديد من الدراسات التربوية التي أشار إليها الكتاب التي أكدت نتائجها أهمية الممارسات التدريسية للتفكير فوق المعرفي وفاعليتها في العملية التعليمية.
وتزيد أهمية الكتاب على أهميته التي ذكرناها بسبب قلة المراجع العربية التي تناولت هذا الموضوع بشيء من التفصيل والتطبيق. ولذا اعتمدت المؤلفة على كم كبير من المراجع الأجنبية.
العلاقة بين المعرفة وفوق المعرفة
قامت المؤلفة في الفصل الأول بتقديم المفاهيم الأساسية المرتبطة بالتفكير فوق المعرفي، حين قامت بتوضيح العلاقة بين المعرفة وفوق المعرفة، مؤكدة أنهما عمليتان تربطهما علاقة وثيقة، فأي نشاط للتفكير يقوم به العقل لإنجاز مهمة معينة ما هو إلا دمج نوعين من الأنشطة وهما: أنشطة معرفية: تستخدم لاكتساب المعلومات والمعارف بكافة أشكالها أو تطويرها، وهي تتضمن مهارات اتخاذ القرار وحل المشكلة والتفكير الناقد والإبداعي، وأنشطة فوق معرفية: توجه جهود الفرد وتنظمها وتضبطها وتقومها بهدف اكتساب هذه المعارف وتشكيلها وتطبيقها، وتتكون من مهارات رئيسة هي التخطيط والمراقبة والتقييم.
فالتفكير فوق المعرفي هو القدرة على إدارة التفكير بشكل يحقق معه الأهداف المرجوة، وهو بهذا يتضمن الوعي بالمعرفة المكتسبة وطريقة تعلمها، والقدرة على تنظيمها، وقد تعددت تعريفاته ومعانيه، إلا أن المؤلفة استطاعت أن تضع تعريفا جامعا لهذا المصطلح، حين وصفته بأنه: «معرفة المتعلم بالعمليات والأنشطة الذهنية التي يمارسها في مواقف التعلم المختلفة، وقدرته على التفكر والتدبر بالمعرفة التي اكتسبها من هذه المواقف، ومحاولاته لتنظيم الأنشطة ومراقبتها وضبطها في أثناء التنفيذ، بالإضافة إلى تقييمه الذاتي لخطة النشاط التي قام بها، وطريقة تنفيذه له والنتائج المكتسبة».
وقد أكدت الدكتورة إيمان أن مهارات التفكير فوق المعرفي ذات أهمية كبيرة في عملية التدريس فهي عمليات ضبط عليا تستخدم لتنظيم أداء الفرد ونشاطاته العقلية والسيطرة عليها أثناء قيامه بمهمة معينة، وهي تشتمل على ثلاث مهارات رئيسة؛ هي: التخطيط والمراقبة والضبط والتقييم. وتضم كل مهارة رئيسة عددًا من المهارات الفرعية.
الممارسات التدريسية
وفي الفصل الثاني من الكتاب تطرقت المؤلفة إلى موضوع الممارسات التدريسية للتفكير فوق المعرفي؛ وهي الإجراءات والسلوكيات التي يقوم بها المتعلم قبل التعلم، وفي أثنائه، وبعده؛ للتحكم في أنشطته المعرفية، وأساليب تعلمه، وزيادة قدرته على التنظيم الذاتي لما يقوم به من مهمات تعليمية بهدف مساعدته على استيعاب المعرفة بصورة جيدة، وتنمية مهارات التخطيط والمراقبة والتقييم -وهي مهارات التفكير فوق المعرفي -لديه، مما يمكّنه من التحكم في تفكيره وتوجيهه بصورة تساعده على مواجهة التحديات المستقبلية والقدرة من التعامل مع متغيرات العصر.
وهناك عدد من الممارسات التدريسية للتفكير فوق المعرفي – مثّلت لها المؤلفة-من أهمها: التفكير وفق خطة التساؤلات الذاتية، واستخدام محكات متعددة للتقييم، والتعامل مع عبارة (لا أستطيع)على أنها عبارة غير مقبولة، وإعادة صياغة الأفكار، وتسمية سلوكيات الطلاب بمصطلحات علمية، وتوضيح المصطلحات التي يستخدمها الطلاب، وخرائط المفاهيم، والخرائط الذهنية، والمعلم النموذج، وسجلات التعلم، والاختيار القصدي الواعي، ولعب الأدوار.
وتقول الدكتورة إيمان الرويثي: «من أهم المبادئ التي يجب مراعاتها عند استخدام ممارسات التفكير فوق المعرفي أن تتحول مسؤولية التعلم تدريجيا إلى المتعلمين، وأن يكون تعلم المادة الدراسية الجديدة بشكل مرتبط بالمعرفة السابقة المتعلمة وبمفاهيمها القبْلية».
أدوات التقييم
كان موضوع أدوات التقييم محورًا مهما من المحاور التي طرحها الكتاب، فقد ذهبت المؤلفة إلى أن طرائق التدريس في العصر الحديث هي في توسع دائم حيث تشتمل على الكثير من أساليب البحث والاستقصاء، لذلك فقد أصبح هناك إدراك آخر مشابه في الأهمية، وهو وجوب تعديل أساليب التقييم لتتواءم مع طرق التدريس الجديدة، فلم يعد بإمكان المعلمين الاعتماد على اختبارات الورقة والقلم التقليدية على أنها الوسيلة الوحيدة لتحديد تقدم الطلاب العلمي وتحصيلهم المعرفي، فلكل أسلوب من أساليب التقييم المعدة شكل يتناسب مع نوع محدد من الأنشطة أو التدريس الذي يشترك فيه الطلاب.
وعلى هذا فإن أساليب التقييم المستخدمة في التفكير فوق المعرفي تتعدد وتتنوع مما يساعد على مراجعة الفهم، والتأكد من تحقق النتائج المرغوب فيها. ومن أهم أساليب التقييم المستخدمة في التفكير فوق المعرفي: بطاقة الملاحظة، مقاييس التقييم الذاتي، المقابلات الشخصية، الاختبارات الكتابية، سجل التعلم، الحوارات وبطاقات المعرفة، بطاقات ممارسة مهارات التفكير فوق المعرفي.. وهي الأساليب التي قدمتها المؤلفة بتفصيل في ثنايا الفصل الثالث.
نموذج تدريس مطور
كانت المؤلفة وهي تضع نموذجها التدريسي المطور للتفكير فوق المعرفي على وعي تام بأن الوضع الراهن للتدريس على مستوى الوطن العربي قائم على الاهتمام بتحفيظ المتعلمين أكبر قدر ممكن من المعلومات التي تفيدهم في الحصول على أعلى الدرجات، ومعظم المقررات الدراسية يتم تنظيمها على أساس محتوى يغطي ويدرس، وهو الأمر الذي يؤدي إلى فهم غير عميق لما يتعلمه الطلاب، وتزداد المشكلة خطورة في ظل أساليب التقييم السطحية والاختبارات التقليدية المتبعة حاليًا.
ومن هذا المنطلق اقترحت الكاتبة في فصلها الرابع نموذجًا تدريسيا مطورا عن دورة التعلم فوق المعرفية التي طورتها (ليز بلانك سنة 2000م) من دورة التعلم التقليدية، حيث قدمت نموذجًا لدورة تعلم فوق معرفية تقوم على خمس مراحل، هي: تقييم المفاهيم والمعارف قبل التعلم (تقييم قبلي)، ثم اكتشاف المفاهيم المراد تدريسها وفق خطة معينة، وبواسطة التساؤلات الذاتية (اكتشاف المفهوم)، وبعد ذلك تقدم المفاهيم المكتسبة بالحوارات والمناقشات (تقديم المفهوم)، ثم تطبق هذه المفاهيم في مجالات جديدة (تطبيق المفهوم)، ومن ثمّ تقييم المفاهيم المكتسبة بعد التعلم (تقييم بعدي)، وذلك بإعادة التأمل والتفكر في المفهوم الذي تم تدريسه والطريقة التي تم التعلم بها.
وأخيرًا... فإن الكتاب يعدّ إضافة جديدة للمكتبة العربية بصفة عامة والتربوية بصفة خاصة، حيث يخاطبُ كلَّ من لديه اهتمام بالتدريس كالمعلمين والمشرفين التربويين والطلاب المعلمين في كليات التربية ومعاهد إعداد المعلمين، وأعضاء هيئات التدريس بمؤسسات التعليم العالي.
-----
الكتاب: رؤية جديدة في التعلم (التدريس من منظور التفكير فوق المعرفي).
المؤلف: د. إيمان محمد أحمد الرويثي.
الناشر: دار الفكر ـ عمان. السنة: 2009م ـ 1430هـ
مجلة المعرفة