[img]
[/img]
الأسلوب هو المعنى المصوغ في ألفاظ مؤلفة على صورة تكون أقرب لنيل الغرض المقصود من الكلام وأفعلَ في نفوس سامعيه , وأنواع الأسلوب ثلاثة :
الأول /:/ الأسلوب العلمي :
وهو أهدأ الأساليب , وأكثرها احتياجاً إلى المنطق السليم والفكر المستقيم , وأبعدها عن الخيال الشعري , لأنه يخاطب العقل , ويناجي الفكر ويشرح الحقائق العلمية التي لاتخلو من غموض وخفاء .
وأظهر ميزات هذا الأسلوب الوضوح . ولابد أن يبدو فيه أثر القوة والجمال , وقوته في سطوع بيانه ورصانة حججه , وجماله في سهولة عباراته , وسلامة الذوق في اختيار كلماته , وحسن تقريره المعنى في الأفهام من أقرب وجوه الكلام .
فيجب أن يعنى فيه باختيار الألفاظ الواضحة الصريحة في معناها الخالية من الاشتراك , وأن تؤلف هذه الألفاظ في سهولة وجلاء , حتى تكون ثوباً شفَّا للمعنى المقصود , وحتى لاتصبح مثار الظنون , ومجالات للتوجيه والتأويل .
ويحسن التنحي عن المجاز ومحسنات البديع في هذا الأسلوب , إلا مايجئ من ذلك عفواً من غير أن يمس أصلاً من أصوله أو ميزة من ميزاته , أما التشبيه الذي يقصد به تقريب الحقائق إلى الأفهام وتوضيحها بذكر مماثلها , فهو في هذا السلوب حسن مقبول .
وهذا الأسلوب هو المتبع في الكتب المنهجية والعلمية فلسنا في حاجة لضرب أمثلة عليه .
~~~~~~~~~~~~~~~~~
الثاني/:/ الأسلوب الأدبي : والجمال أبرز صفاته , وأظهر مميزاته , ومنشأ جماله مافيه من خيال رائع , وتصوير دقيق , وتلمس لوجوه الشبه البعيدة بين الأشياء , وإلباس المعنى ثوب المحسوس , وإظهار المحسوس في صورة المعنوي .
فالمتنبي لايرى الحمى الراجعة كما يراها الأطباء أثراً لجراثيم تدخل الجسم , فترفع حرارته , وتسبب له رعدة وقشعريره . حتى إذا فرغت نوبتها تصبب الجسم عرقاً , ولكنه يصورها كما تراها في الأبيات الآتية :
وزائرتي كأن بها حياء ............ فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ............ فعافتها وباتت في عظامي
إلى آخر الأبيات .
وقد يتظاهر الأديب بإنكار أسباب حقائق العلم , ويتلمس لها من خياله أسباباً تثبت دعواه الأدبية وتقوى الغرض الذي ينشده , فكلفُ البدر الذي يظهر في وجهه ليس ناشئاً عما فيه من جبال وقيعان جافة كما يقول العلماء , لأن المعري يرى ذلك سبباً آخر فيقول في الرثاء :
وماكلفةُ البدر المنير قديمةً *** ولكنها في وجهه أثرُ اللطم
ولابد في هذا الأسلوب من الوضوح والقوة فيقول المتنبي :
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي *** بثانية والمتلف الشئ غارمه
غير بليغ لأنه يريد أنه نظر إليها نظرة أتلفت مهجته , فيقول لها قفي لأنظرك نظرة أخرى ترد إلى مهجتي وتحييها , فإن فعلت كانت النظرة الثانية غرماً لما أتلفته الأولى .
فانظر كيف عانينا طويلاً في شرح هذا الكلام الموجز الذي سبب مافيه من حذف وسوء تأليفه شدة خفائه وبعده عن الأذهان , ومع أن معناه جميل بديع , وفطرته مؤيدةً بالدليل .
وإذا أردت أن تعرف كيف تظهر القوة في الأسلوب فاقرأ قول المتنبي في الرثاء :
ماكنتُ آمل قبل نعشك أن أرى *** رضوى على أيدي الرجال يسير
ثم أقرأ قول ابن المعتز :
قد ذهب الناس ومات الكمال *** وصاح صرف الدهر أين الرجال
هذا أبو العباس في نعشه *** قوموا انظروا كيف تسير الجبال
تجد أن الأسلوب الأول هادي مطمئن , وأن الثاني شديد المرة عظيم القوة وربما كانت نهاية قوته في قوله : (( وصاح صرفُ الدهر أين الرجال )) ثم في قوله : (( قوموا انظروا كيف تسير الجبال ))
وجملة القول أن هذا الأسلوب يجب أن يكون جميلاً رائعاً بديع الخيال , ثم واضحاً قوياً . ويظن الناشئون في صناعة الأدب أنه كلما كثر المجاز , وكثرت التشبيهات والأخيلة في هذا الأسلوب زاد حسنه , وهذا خطأ بين , فإنه لايذهب بجمال هذا الأسلوب أكثرُ من التكلف , ولايفسده شر من تعمده الصناعة ,
ونعتقد أنه لايعجبك قول الشاعر :
فأمطرت لؤلؤاً من نرجس وسقت *** ورداً وغضت على العناب بالبرد
هذا ومن السهل عليك أن تعرف أن الشعر والنثر الفني هما موطنا هذا الأسلوب ففيهما يزدهر , وفيهما يبلغ قُمة الفن والجمال .
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
الثالث /:/الأسلوب الخطابي : هنا تبرز قوة المعاني والألفاظ , وقوة الحجة والبرهان , وقوة العقل الخصيب , وهنا تحدث الخطيب إلى إرادة سامعيه لإثارة عزائمهم واستنهاض هممهم , ولجمال هذا الأسلوب ووضوحه شأن كبير في تأثيره ووصوله إلى قرارة النفوس , ومما يزيد في تأثير هذا الأسلوب منزلة الخطيب في نفوس سامعيه وقوة عارضته . وسطوع حجته , ونبرات صوته , وحسن إلقائه ومحكم إشارته .
ومن أظهر ممميزات هذا الأسلوب التكرار , واستعمال المترادفات , وضربُ الأمثال , واختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين , ويحسن فيه أن تتعاقب ضروب التعبير من إخبار إلى استفهام إلى تعجب إلى استنكار , وأن تكون مواطن الوقوف فيه قويةً شافية للنفس . ومن خير الأمثلة لهذا الأسلوب خطبة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أغار سفيان بن عوفٍ الأسدي على الأنبار وقتل عامله عليها :
(( هذا أخو غامدٍ قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسَّان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها( وهو الثغر حيث يخشى طروق العدو ) وقتل منكم رجالاً صالحين .
(( وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ( الذمية ) فينزع حجلها ( الخلخال) وقُلبها (السوار ) ورعاثها ( القرط ) ثم انصرفوا وافرين مانال رجلاً منهم كلْم (الجرح ) ولاأريق لهم دم , فلو أنَّ رجلاً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ماكان به ملوماً , بل كان عندي جديراً .
(( فواعجباً من جدَّ هؤلاء في باطلهم , وفشلكم عن حقكم , فقبحاً لكم حينَ صرتم عرضاً يرمي , يُغار عليكم ولاتغيرون , وتُغزون ولاتَغزون , ويُعصى الله وترضون ))
فانظر كيف تدرج علي بن أبي طالب في إثارة شعور سامعيه حتى وصل إلى القمة فإنه أخبرهم بغزو الأنبار أولاً , ثم بقتل عامله , وأنَّ ذلك لم يكف سفيان ابن عوف فاغمد سيوفه في نحور كثيرٍ من رجالهم وأهليهم .
ثم توجه في الفقرة الثانية إلى مكان الحميَّ فيهم , ومثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربي كريم , ‘لا وهو المرأة , فإن العرب تبذل أرواحها رخيصة في الذود عنها , والدفاع عن خدرها , فقال : إنهم استباحوا حماها , وانصرفوا آمنين .
وفي الفقرة الثالثة أظهر الدهش والحيرة من تمسك أعدائه بالباطل ومناصرته , وفشل قومه في الحق وخذلانه . ثم بلغ الغيظ منه مبلغه فعيَّرهم بالجبن والخور . هذا مثال من أمثلة الأسلوب الخطابي نكتفي به على هذه العجالة , والله الموفق .